مقالات

هل الإجراءات تقتل الإبتكار ؟

بقلم: المهندس عبدالرحمن الفريح

نوفمبر2020
تحميل بصيغة pdf

هل الإجراءات تقتل الإبتكار – مع توجه كثير من المنظمات الربحية وغير الربحية إلى تطبيق الممارسات الإدارية الحديثة الرامية إلى تنظيم العمل الإداري ورفع الكفاءة والفعالية، يطرأ لدى هذه المنظمات هاجس أن تنظيم العمل الإداري بما يتضمنه من إجراءات وسياسات ومؤشرات أداء قد يؤثر على مستوى الابتكار والإبداع في المنظمة! فهل هذا الهاجس والتخوّف في محلّه؟

أولاً دعونا نعرف ببساطة لماذا تحتاج المنظمات إلى الابتكار ولماذا تحتاج إلى التنظيم الإداري؟

تحتاج المنظمات إلى إبتكار منتجات وخدمات وحلول تساعدها على التفرّد والتميّز وتقديم أفضل الخدمات لمستفيديها وعملائها، وفي نفس الوقت تحتاج إلى آليات لتنظيم عملياتها الإدارية ورفع الكفاءة والفعالية فتلجأ لوضع الإجراءات والسياسات ومؤشرات الأداء، وهنا يبدأ الصراع بين الحريّة والقيود، بين وجود مساحة للتغيير والإبداع وبين البيروقراطية المملّة، بين تركيز الموظفين على المنتج النهائي أو تركيزهم على إتباع الإجراءات والقواعد التنظيمية! وبمنظور آخر هو صراع بين التطلع للعالم للخارجي ورؤية العملاء والمستفيدين وإقتناص الفرص التي تساهم في تقديم أفضل الخدمات والمنتجات لهم وبين الانطواء على العالم الداخلي والتركيز على حل المشاكل الداخلية وإطفاء الحرائق!

وهنا يبدأ توجيه أصابع الإتهام للإجراءات والعمل التنظيمي على أنها أداة للتعقيد والتقييد وقتل الإبتكار وتفشل معها مبادرات تنظيم العمل الإداري (مثل مبادرات توثيق وتحسين إجراءات العمل، وضع مؤشرات الأداء،….)

 

هل الإجراءات تقتل الإبتكار؟

 

الإشكال الأساسي هو تبني فكرة “يا أبيض يا أسود”، بمعنى آخر أن الخيارات المطروحة هي:

1) أن يكون لدينا بيئة صديقة للإبتكار

2) بيئة تنظيمية بحتة مقيدة بإجراءات وتنظيمات ومؤشرات أداء!

وفي الواقع أن هذه الفكرة خاطئة تماماً، حيث أنه لا يوجد تعارض أبداً بين وجود بيئة منظّمة إدارياً بشكل جيّد وفي نفس الوقت تدعم الابتكار!  الفارق هو كيفية تعاطي المنظمات مع هذين الأمرين وإيجاد نقطة التوازن المناسبة بين الابتكار والتنظيم.

وهنا سأذكر تجربتين مختلفتين توضح أن النجاح هو في الموازنة بين الابتكار والتنظيم.

 

التجربة الأولى لشركة  Home Depot الشهيرة والتي كانت تحتل المركز الأول في مؤشر رضا العملاء عام 2005 و تراجعت شيئاً فشيئاً لتحتل المراكز الأخيرة، فماذا حدث لهم؟ ما حدث أن الشركة وبتوجه الإدارة العليا قامت بالتركيز على التنظيم الداخلي وإصلاح المشاكل وتعزيز الجودة فقامت بتبني منهجية Six Sigma لتنظيم عملياتها الداخلية  وغرقت في هذا البحر وتجاهلت العالم الخارجي تماماً. النتيجة كانت مذهلة فيما يخص ترشيد النفقات وتعزيز الكفاءة ولكن نتج عن ذلك انخفاض ملحوظ في أداء الموظفين وهمتهم وحماسهم وانخفاض ملحوظ في مستوى رضا العملاء!

 

التجربة الثانية لشركة  3Mالرائدة في مجال الابتكار، عندما تولى قيادتها السيد جيمس ميكنيرني في عام 2001 قادما من شركة GE، قامت بتطبيق منهجية Six Sigma لتحسين العمليات الداخلية ورفع الكفاءة والجودة، وبالفعل نتج عن ذلك تقليل في المصاريف التشغيلية ورفع الكفاءة ولكن انخفضت نسبة مساهمة الإيرادات التي عادة تجنيها الشركة من منتجاتها المبتكرة والجديدة في السوق من 30% من الإيرادات إلى 21%. استمرّ هذا الانخفاض حتى مغادرة السيد جيمس إلى شركة بوينج في عام 2005، حيث اتخذت الشركة قراراً استراتيجياً ذكياً بعد ذلك يتلخص في الإبقاء على منهجية Six Sigma كمنهجية مهمة لرفع الكفاءة التشغيلية في مصانع الشركة، ولكن في نفس الوقت أطلقت مبادرات وبرامج رائعة لدعم الإبتكار داخل الشركة نتج عنها عودة مساهمة الإيرادات للمنتجات المبتكرة إلى  30% في عام 2010م.

 

 

مما سبق، يمكن تلخيص الرد على هذا التخوّف، من خلال النقاط التالية:

  • تحتاج المنظمات إلى الإبتكار كحاجتها للتنظيم الإداري (والعكس صحيح)!
  • التنظيم الإداري يركّز غالباً على حل المشاكل في العالم الداخلي للمنظمة والابتكار يركّز على اقتناص الفرص في العالم الخارجي.
  • لا يوجد تعارض بين وجود الابتكار ووجود تنظيم إداري، ولا يؤثر أحدهما على الآخر، ولكن تختلف المنظمات في إيجاد نسبة التوازن الصحيحة بينهما.
  • الإبتكار بحد ذاته يحتاج إلى تنظيم (إجراءات وسياسات) حتى يكون فعّال ولا تكون العملية الابتكارية عشوائية!
  • الإبتكار ليس حصراً على إيجاد منتجات جديدة أو نموذج عمل جديد، هناك شكل معروف من أشكال الابتكار وهو إبتكار الإجراءات Process Innovation
  • الطريقة الوحيدة لتنفيذ أي مهمة وتقديم أي خدمة أو منتج هي من خلال تنفيذ خطوات متسلسلة تسمى إجراءات، توثيق هذه الإجراءات في مستند ينظم العمل ويحد من العشوائية والاجتهاد ولا يؤثر على الابتكار.
  • يجب أن تخضع هذه الإجراءات لمراقبة مستمرة لأدائها، وإذا تبين وجود خلل في الأداء يجب عمل التحليل المناسب لهذا الخلل ومعرفة أسبابه، وإذا تبين أن أحد أسباب الخلل هو وجود بعض القيود التي تفرضها الإجراءات فيتم حينئذ ابتكار حلول لهذا الخلل، ولكن لا يعني هذا أن نقوم بإلغاء الإجراءات.
  • يوجد فرص عظمى للابتكار من خلال حل المشاكل الداخلية (بعض منهجيات إعادة هندسة الإجراءات تتضمن أدوات للابتكار مثل منهجية SprintPiP
  • لا يعني هذا أن يكون الابتكار في المنظمة هو استجابة وحلّ لمشكلة طارئة، بل يجب على المنظمة أن تبادر في الابتكار من خلال وضع استراتيجية شاملة للابتكار وتنفيذها بالشكل الصحيح.
  • وجود وحدات تنظيمية (إدارات أو أقسام) مختلفة مسؤولة عن الابتكار (مثال: إدارة الابتكار) وأخرى مسؤولة عن التنظيم الإداري (مثال: إدارة التميز المؤسسي) قد يساهم في إيجاد التوازن الصحيح بينهما. على العكس لو كان الابتكار والتنظيم الإداري مسؤولية وحدة تنظيمية واحدة!
  • عند إطلاق مبادرات تنظيم العمل الإداري (مثال: كتابة السياسات والإجراءات) يجب التفريق بين الإجراءات التي يوجد بها مساحة للابتكار فلا يتم تقييدها (مثال: إجراءات البيع أو التواصل مع العملاء) وبين تلك الإجراءات التي يجب أن تخضع لقوانين وسياسات (مثال: إجراءات المشتريات الخاضعة لنظام المشتريات الحكومية)

 

 

  • بناء إجراءات للخدمات الإبداعية ليس مُقيّدًا لها، وسأضرب مثالًا لتقريب الصورة*:
    • يكتبُ الشاعر القصيدة (بكامل الحرية الإبداعية).
    • يراجعها المتخصص اللغوي ليتأكد من خلوها من أخطاء الإملاء والنحو والعَروض.
    • يتسلّمها المحرر ليضبط حروفها بالشكل.
    • يراجعها الشاعر ليتأكد من سلامة الضبط، ويؤكد رضاه عن الصورة النهائية.
    • يصممها المصمم (بكامل الحرية الإبداعية مع الالتزام بسياسة الهوية البصرية).
    • يراجعها رئيس التحرير ويعتمد نشرها في العدد القادم من المجلة.

الإجراء هنا وضّحَ للشاعر مسؤولياته، وبنى توقعاته حول تاريخ النشر، وبيّن له إلى من ينبغي أن يُرسل القصيدة بعد إتمامها؛ لكنه لم يتدخل إطلاقًا ليحدّ من إبداعه أو خياله أو عاطفته.

  • أخيراً وليس آخراً، أختم بهذا النص الرائع لزميلي المهندس بسام الخراشي، للربط بين الإبتكار والإجراءات:

“الإبتكار هو إيجاد طريقة أفضل لتنفيذ شيء ما، وإبتكار طريقة أفضل لتنفيذ إجراء تقتضي تطويره، ولتطويره يجب عليك أن تديره، ولتديره عليك أن تقيس أداءه لتعرف الحاجة للتطوير من عدمها، ولتقيس الأداء عليك أن توثّقه”

 

مشاركة وتوضيح من زميلي العزيز أ. مالك عرقسوسي  عضو الفريق الاستشاري في شركة ES Consulting.

 

نهتم بإستقبال أي أسئلة أو إستفسارات