التوجه الإستراتيجي – في القرن الخامس قبل الميلاد، كان «الإستراتيجي» هو الشخص المسؤول عن وضع الخطط الحربية في أثينا. لكن اليوم، أصبحت الإستراتيجيات أحد أهم العلوم الإدارية، وتحولت الإدارة الإستراتيجية إلى وسيلة فعالة للتخطيط والتنفيذ للوصول بالمنظمات إلى النجاح طويل الأمد.
في هذه النشرة:
- نبذة عن الإدارة الإستراتيجية
- معنى الإستراتيجية (العام والخاص)
- التوجه الإستراتيجي حين يكون الابن البار
- التوجه الإستراتيجي حين يكون الابن العاق!
- فلنغيّر التوجه إذا لم يكن مجديًا
- قصص إستراتيجية حزينة
- قصص إستراتيجية سعيدة
- لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع
1. نبذة عن الإدارة الإستراتيجية
ما هي الإدارة الإستراتيجية؟
الإدارة الإستراتيجية (Strategic Management) علمٌ يُعنى بالتخطيط والتنفيذ على المستوى المؤسسي.
يمكن تصور العملية الكاملة للإدارة الإستراتيجية على النحو التالي:
في أغلب الأحيان، تكون الإدارة الإستراتيجية مصممة في شكل دورة مغلقة تنتهي بتقييم الإستراتيجية للعودة من البداية،
فمخرجات العملية الكاملة تعتمد على الكثير من المتغيرات التي تفرض على المنظمات مراجعتها دوريًا (أو بعد أحداث كبرى) للتأكد من قدرتها على التأقلم مع الوضع الحالي.
2. معنى الإستراتيجية (العام والخاص)
تتكون الإستراتيجية –عادةً- مما يلي:
1) الرسالة: سبب إنشاء المنظمة.
2) الرؤية: حلم المنظمة.
3) الأهداف الإستراتيجية: أحلام أصغر تتعاضدُ لتحقيق حلم المنظمة الكبير.
4) التوجهات الإستراتيجية (الإستراتيجيات): كيف ستتجه المنظمة إلى الحلم.
5) خطط العمل: تفصيل أدق لسؤال «كيف؟» من خلال مبادرات ومشاريع.
ولعلك لاحظتَ أن الإستراتيجية ذُكرت مرتين. ذُكرت في البداية بالمعنى العام (الشامل لكل المكونات)،
وذُكرت في النقطة الرابعة بالمعنى الخاص (إجابة سؤال «كيف»).
تستطيع التعرف على المعنى المقصود (هل هو العام أم الخاص) من خلال سياق الحديث.
3. التوجه الإستراتيجي حين يكون الابن البار
قبل عام 1903 كان الأخوان رايت (أورفيل وويلبر) في منافسة غير مُعلنة، طرفها الآخر هو الفيزيائي والمخترع الأمريكي صموئيل لانغلي، بهدف صناعة أول طائرة.
كان النجاح حليف الأخوين، رغم أن نجاحهما لم يكن النتيجة المُتوقعة أو الطبيعية، خاصة أن الفيزيائي الشهير كان يحصل على كل الدعم المالي والتقني من الحكومة الأمريكية، في حين كان الأخوان يعملان بعيدًا عن الأضواء ودون أي دعم.
وفيما يلي تصوّر عن إستراتيجية كل من الفريقين:
عندما نجح الأخوان في الطيران أول مرة، لم تكن هناك تغطية إعلامية أو صحفيون ينشرون الخبر.
فقد كانت التغطية الإعلامية تتابع باهتمام تجارب الفيزيائي والمخترع صموئيل، ولم يتوقع أحد أن ينجح الشابان الطموحان في تحقيق هذا الإنجاز.
كان اختيار التوجه الإستراتيجي هنا وهنا، نتيجةً طبيعيةً للرؤية والرسالة التي تبناها كلٌ من الفريقين.
إن التوجه الإستراتيجي حين يوضع بعناية، فإنه يكون ابنًا بارًا للرؤية والرسالة، فقد استطاع الأخوان رايت تحقيق رؤيتهما، كما أن صموئيل قد نال الكثير من الشهرة والمال، وهذا ما كان يطمح إليه فعلًا.
4. التوجه الإستراتيجي حين يكون الابن العاق!
محاربة الفقر كانت رؤيةً نبيلة تبنتها كل من الولايات المتحدة والصين في القرن الماضي، إلا أن اختلاف توجهات الوصول إلى هذه الرؤية بين الدولتين، أنتج نتائج مختلفة تمامًا.
نشر معهد كاتو للأبحاث إحصائيات صادمة عن عمل الولايات المتحدة على محاربة الفقر، إذ أوضح أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ إدارة ليندون جونسون، أنفقت نحو 15 تريليون دولار،
لكن بقيت معدلات الفقر ثابتة! والسبب كان أنها عملت على تقديم مساعدة مباشرة للفقراء لا على تحديد أسباب الفقر ومحاربتها.
في المقابل، نجحت الصين في انتشال أكثر من 800 مليون شخص من تحت خط الفقر، بسبب اعتماد التعليم الإلزامي، والتحديث الدائم لقائمة الأسر الفقيرة، حتى لا تُصبح المساعدات الاجتماعية سببًا لتكاسل المواطنين.
نجحت كل من الولايات المتحدة والصين في التنفيذ العملي. لكن الأمريكيين اكتشفوا -بعد الكثير من الوقت والجهد- أن محاربة مظاهر الفقر لم يكن حقًا ما ينبغي فعله،
وكان ينبغي أن يكون توجههم هو محاربة أسباب الفقر لتقليص نسبة العائلات الفقيرة.
الرؤية الجيدة (من الأعلى)، والتنفيذ الجيد (من الأسفل)، لا يكفيان إذا لم تكن التوجهات الإستراتيجية موضوعةً بعناية،
بل قد يوصلاننا بتميّز مُذهل إلى المكان الخطأ!
التوجه الإستراتيجي إذا لم تعتنِ به جيدًا، فقد يكون ابنًا عاقًا للرؤية والرسالة.
5. فلنغيّر التوجه إذا لم يكن مجديًا
تحقيق عائد كبير بأقل جهد ممكن، معياران مهمّان للحكم على الإستراتيجية الجيدة، ولأن المدراء الناجحين يحملون مسؤولية موظفيهم وعملائهم، فهم يعتنون باختيار أفضل التوجهات الإستراتيجيات، ولا يمانعون من تحديثها إذا ثبت أنها تحقق عوائد قليلة أو تتطلب جهدًا كبيرًا.
ثابت الدائرة ط (π)
حتى في الرياضيات، يُمثل اختيار الإستراتيجية المناسبة أفضل وسيلة لتحقيق أفضل الأهداف بأقل جهد ممكن.
قبل نشر إسحاق نيوتن أعماله حول طريقة احتساب ثابت الدائرة ط، كان علماء الرياضيات يستعملون إستراتيجية مجهدة، لإيجاد أرقامه العشرية، إذ كانوا يعتمدون على الرسوم الهندسية لحصر مساحة الدائرة داخل مضلعات، ثم تحديد القيمة التقريبية، ويقضون سنوات طويلة لاكتشاف أي رقم جديد في كل سلسلة.
بالاعتماد على الإستراتيجية التقليدية قضى علماء رياضيات سنوات طويلة لحساب الأعداد العشرية لثابت الدائرة. على سبيل المثال:
- فرانسوا فييت (عالم الرياضيات الفرنسي) اعتمد مضلعًا يحتوي على أكثر من 390 ألف ضلع، لحساب القيمة التقريبية.
- لودولف فان ساولن (الرياضي الألماني) قضى أكثر من 17 عامًا في حساب 35 رقمًا بعد الفاصلة من الثابت ط، وبالاعتماد على مضلع يحتوي على أكثر من 4.6 وَلْف ضلع. (الوَلف هو الرقم واحد وبجانبه 18 صفرًا).
نيوتن يجعل الحل الهندسي من الماضي
وجد إسحاق نيوتن الإستراتيجية المعتَمدة لتحديد قيمة تقريبية للثابت الرياضي غير مجدية، وابتكر طريقته الخاصة التي أنهت الأساليب القديمة، فقد اعتمد على المتسلسلات غير المنتهية (Infinite Series)، ليضع حجر الأساس لمنهجية جديدة، وليُنهي أساليب كلفت الإنسانية عشرات السنوات من العمل المضني دون نتائج حقيقية.
6. قصص إستراتيجية حزينة
لضمان النجاح في أي إستراتيجية جديدة، يحرص الخبراء على دراسة الأخطاء التي حدثت في تاريخ الإستراتيجيات، لفهمها ومعالجتها وتلافي تكرارها.
وكما تحتوي الكتب المتخصصة على الكثير من الأمثلة لقصص نجاح الإستراتيجيات، فهي تحتوي على الأخطاء التي يجب الحذر منها وتجنبها عند وضع أي خطة إستراتيجية.
التركيز على العائد المالي فقط
العوائد المالية مهمة لأي منظمة ربحية أو غير ربحية، لكن وضعها كهدف إستراتيجي يعني تحويل المنظمة من كيان يقدم منفعة ما (خدمة أو منتج)، إلى آلة جشعة لكسب المال!
الجشع، هو الوصف الذي ارتبط بشركة Electronic Arts الأمريكية بين سنوات 2006 و 2008، وهو الذي سبب انهيار قيمة أسهمها في البورصة من 45 دولار إلى أقل من 17 دولار خلال بضعة أشهر.
كانت ضغوط المساهمين على الشركة كبيرة خلال عام 2008، إذ كانوا يريدون رؤية قفزة كبيرة لقيمة الأسهم التي اشتروها.
وسبب هذا الضغط تغييرًا في إستراتيجية الشركة، فبعد أن كانت إستراتيجيتها «تطوير أفضل الألعاب الإلكترونية» تحولت إلى «تحقيق أكبر عائد من الأرباح».
مع الأسف، استمرت المبيعات بالتناقص تدريجيًا كلما زاد التركيز على الأرباح، والأسوأ من كل هذا، أن الشركة نالت لقب أسوأ شركة أمريكية مرتين على التوالي، في استطلاعات الرأي التي شملت أعدادًا كبيرة من المستهلكين.
إهمال العوامل المحيطة بالمنظمة
عام 2008، كانت قيمة أسهم الشركة الكندية Blackberry تتجاوز الـ 144 دولار، لكنها تدهورت تدريجيًا لتستقر عند الـ 6 دولارات بعد أقل من 5 سنوات.
والسبب كان ببساطة أن الشركة لم تراقب –بالجدية اللازمة- تطورات تقنيات الهواتف الذكية، ولم تهتم بالمنتجات الجديدة من هواتف الأندرويد والآيفون.
عدم متابعة السوق وتطورات التقنيات وطرق العمل جعلت موظفي Blackberry أنفسهم يستعملون هواتف منافسة لشركتهم أثناء العمل، دون أن يشكوا للحظة أنهم يصممون هواتف لا يريد أحد استخدامها!
التعارض بين التوجهات الإستراتيجية
بسبب كثرة الانتقادات الموجهة إلى شركة McDonald’s الأمريكية، أطلقت الشركة توجهًا إستراتيجيًا جديدًا يقوم على تقديم وجبات صحية وغير مشبعة بالدهون.
هذا التوجه، كلف الشركة أموالًا طائلة، وجهودًا في تحضير خطوط إنتاج جديدة، وتحضير وجبات صحية مناسبة.
عملت الشركة بجد، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا، وذلك لأن McDonald’s كانت وجهة الناس الباحثين عن وجبات لذيذة ودسمة، ولا أحد من هؤلاء سيغير رغبته بعد أن يصل إلى المطعم، وينقلب -فجأةً- إلى محبٍ للمنتجات الصحية وقليلة السعرات الحرارية.
الإستراتيجية التي تبنتها McDonald’s عام 2005، كانت تتعارض مع إستراتيجياتها السابقة، إذ صنعت قاعدة عملاء يريدون خدمة خاصة، ثم قررت أن تختار طريقًا جديدًا يتضارب مع ما دأبت عليه لسنوات.
لذلك كانت النتيجة مكلفة، واستهلكت من موارد الشركة دون منفعة حقيقية.
7. قصص إستراتيجية سعيدة
الانطلاق من رؤية ملهمة
بعد كانت شركة تيسلا تُعتبر محرقة حقيقية لأموال المستثمرين، نجحت الشركة في تحقيق أرباحها لأول مرة.
ورغم كل الصعاب التي واجهتها، إلا أنها بقيت دائمًا قادرة على الوقوف في وجه التيار، لأن إستراتيجياتها (المجنونة) كانت مبنية على رؤيتها الملهمة، التي هي: «إنتاج سيارات صديقة للبيئة».
كانت تيسلا -ممثلةً في مديرها التنفيذي- تعلم أن أكبر تحدٍ لها هو صناعة بطاريات بجودة عالية وتكلفة منخفضة، لذلك كان توجهها هو الاستثمار في المصانع التي تعمل على صناعة وتطوير البطاريات.
ثم اعتمدت سياسة تسويقية صادمة وجريئة، تصدّرت بها الأخبار وعرّفت بمنتجاتها المبتكرة.
التحسين الدائم
في السبعينات، وعندما كان كبار صناعة السيارات (GM و Fiat و Ford) يسيطرون على السوق في الولايات المتحدة، دخلت شركة يابانية مغمورة مضمار المنافسة بشراسة. كانت تنقل سياراتها على السفن إلى الولايات المتحدة، لتبيعها بأسعار أقل بكثير من أسعار السيارات الأمريكية.
هذه الشركة الصغيرة رفضت الاستسلام عندما فرضت عليها الحكومة الأمريكية الضرائب التي اضطرتها إلى رفع أسعار سيارتها، بل قلبت الطاولة، وقامت ببناء معاملها على التراب الأمريكي، وواصلت العمل وفق إستراتيجيتها المبنية على مبدأ كايزن، والذي يعني التحسين السريع والمستمر. إنها تويوتا!
إعطاء الأولوية للمنفعة
تحقق البنوك في الولايات المتحدة أرباحًا طائلة، لذلك فهي لا تحاول خوض غمار مغامرة غير مأمونة المخاطر حين تتعامل مع التجزئة، الأمر الذي سبب صعوبة للتجار الذين يجدون أنفسهم مجبرين على التعامل مع الشروط المجحفة للبنوك.
هذا التحدي شكّل فرصةً لتحقيق منفعة منشودة، فظهرت للعالم شركة بايبال، والتي لم تكتف بتقديم منفعة حقيقية للتجار والعملاء، بل أزالت الطرف الثالث الوسيط في عمليات تحويل الأموال بين التاجر والعميل.
هذا الفهم العميق لقيمة الإستراتيجية، جعل إيلون ماسك الشريك المؤسس لـ بايبال قادرًا على بناء مشاريع أخرى على قدر عالٍ من النجاح والتميز.
8. لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع
يحاول غير المتخصصين اعتماد إستراتيجيات جاهزة، أو البحث عن إستراتيجية تصلح لكل المنظمات، لكن هذه الإستراتيجية -إن وُجدت- فهي لن تفيد أي منظمة.
الإستراتيجية (بالمعنى العام أو المعنى الخاص) ليست مجرد كلمات فضفاضة أو تصورات خيالية، بل هي نتيجة لتفكير إستراتيجي له إطاره وأدواته، يصمم إستراتيجية تناسب المنظمة المعينة لمدة معينة.
شركة Kmart، ورغم وزنها في السوق الأمريكية، إلا أنها اعتمدت إستراتيجية لا تناسب حجمها ولا المنافسة الشرسة التي تواجهها. وإذا أردنا إثبات ذلك، فما علينا سوى إلقاء نظرة على الرؤية التي اختاروها، ونصها:
«نريد أن نزدهر كشركة تسويق واسعة النطاق تقدم للعملاء منتجات ذات جودة عالية عبر مجموعة من العلامات التجارية الحصرية».
هذه الرؤية الفضفاضة وغير الدقيقة يمكن إلصاقها على أي شركة تسويق دون أن نلاحظ الفرق. لكنها رافقت Kmart أغلب سنوات عملها، ولم ينجم عنها أي توجهات إستراتيجية واضحة، على عكس منافسيها الذين اختاروا العمل بثبات لتقديم منتجات بجودة عالية، أو منتجات بجودة متوسطة وأسعار زهيدة. وهذا ما سبب تراجع قيمة أسهم الشركة بطريقة ثابتة من 130 دولار عام 2007 إلى أقل من نصف دولار عام 2021.
لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى، علينا:
1. تحديد أين نحن الآن، وإلى أين نريد أن نصل (الرؤية والرسالة الإستراتيجية الكبرى).
2. تحديد الوجهة التي ستوصلنا إلى أهدافنا (التوجهات الإستراتيجية).
3. التخطيط التفصيلي للمبادرات الإستراتيجية والمشاريع.
المصادر:
1.Good Strategy / Bad Strategy: The Difference and Why It Matters; Richard P. Rumelt.
2.Strategic Management: A Competitive Advantage Approach, Concepts and Cases; Fred R David.